أخت الشهيد، وأمّه! | لقاء مع ماري دانيال
عندما ولد مينا كانت ماري في مطلع العشرينات، أمهما عانت المرض وهي لم تحظَ بالأمومة، ربّته فصار أخيها ابنها، كبر ليصير ثائرًا على الظلم يبحث عن العدالة والحرية الحقيقية، فأصبح هو أباها الفكري، أحبّه الثوار، وبعد استشهاده في أحداث "ماسبيرو" صار رمزًا: مينا دانيال- جيفارا المصري!
ماري دانيال (42 عامًا)، هي أخت الشهيد مينا (22 عامًا) وبمثابة أمه. مينا استشهد يوم التاسع من اكتوبر عام 2011، أثناء أحداث ماسبيرو، وهي إحدى النساء اللواتي نزلن إلى ميدان التحرير أيام ثورة 25 يونيو. ومنذُ خرجت ماري وشقيقها مينا إلى ميدان التحرير، صارت تعي تمامًا ماذا يجري في مِصر، ولماذا عليها ألا تصمِت أمام الظلمِ.
ولأنها تؤمِنُ بالثورة، كما قالت، أدلت بصوتها في الجولة الأولى مِن انتخابات الرئاسة لصالح حمدين صباحي، لكنها في الجولة الثانية، قررت المقاطعة، لأنها تعتبر أحمد شفيق "قاتل"، وممثل الإخوان المسلمين (قاتل)، وأنّ الثورة مستمرة، خاصةً أنّها تتوقع صدامًا قريبًا بين الإخوان والمجلس العسكري على "كرسي الرئاسة". وأنّ الرئيس القادم سيكون "طرطورًا" بيد المجلس، وأنّ "اتفاقياتٍ مشبوهة وسرية" سيتم التأكيد عليها قريبًا.
ماري دانيال، لم تزل تلملم جراحها بفقدان شقيقها، الذي أحبته وربّته كإبنٍ لها، خاصةً أنّها كانت في بداية العشرينات عندما وُلِد، وكانت أمها مريضة، فاحتضنته، ورعته طفلاً صغيرًا وشابًا يافعًا، قبل أن يمشي من الدُنيا، ليصبح شهيدًا فداءً لمصر.
مينا ابني الذي لم ألده
تقول شقيقة مينا: "أثناء ثورة 25 يناير، أصيب شقيقي برصاصة في كتفه، وأخرى في ركبته بين العظام، أثناء موقعة الجمل، وظلّ قويًا، لكن في أحداث ماسبيرو، في التاسع من اكتوبر 2011، تلقى رصاصة في صدره مزقته فأغمض عينيه على حلم أن تصبح مصر حُرة".
"كان مينا يحلم بالحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة ما بين الطوائف، يوم استشهاده كنا نسير في تظاهرة سلمية نحو دوران شبرا، مع آلاف الأقباط، الذين حملوا أكفانهم وارتدوا الملابس البيضاء، منددين بالعنف، وبحرق كنيسة مار جرجس بـ"الماريناب" بمحافظة أسوان. كنتُ أسير أنا وشقيقي مينا وشقيقتي شيري، وطالبنا المتظاهرين ألا يهتفوا بشعاراتٍ دينية، لأنّ القضية وطنية، وفعلاً خففت الشعارات الدينية، وكان بيننا أطفالٌ وشيوخٌ ونساء، وكان يهطل الرصاص مِن حولنا كزخات المطر، ثم انقطعت الأنوار، وبقيت المدرعات تقصف القنابل، صرنا نمشي بسرعة، والدماء تتساقط من أمامنا بشكلٍ مخيف".
- الزميلة غادة أسعد مع ماري دانيال (يمين) في القاهرة -
"منظرٌ لن أنساه ما حييت، وحين تدافعنا ظلّ البلطجية يلاحقوننا، حتى التقينا بالشباب، الذين أبلغونا أنّ مينا في المستشفى، أخذنا تاكسي، فوجدنا البلطجية أمامنا في المستشفى يهاجموننا، وهُناك عرفنا أنهُ فارق الحياة".
وبلهجتها المصرية، قالت: "الأمومة مش بس احساس دا حقيقة، إنه ابني الذي لم ألده من رحمي"، وتضيف "منذ ولادة مينا، تكفلت بتربيته، أمي كانت ترضعه، لكنني كنتُ أعتني به، أنا والدته، كان كل شيء في حياتي، لم يُرد الله أن يمنحني الأمومة، في زواجي، فصرتُ أمًا حقيقية لشقيقيْ مينا وشيري، علمًا أنّ الأشقاء الخمسة تزوجوا، وبعد رحيل مينا، آخر أشقائي، بقيتُ أنا وشيري التي تبلغ من العمر 25 عامًا".
مينا كان يعيشُ مقهورًا
عن مينا تحدثني: "إنه كان يشعُر بالظلمِ والقهر، منذُ صغره، كان يشعرُ بالقهر تجاه طائفته، ويعلم تمامًا أنه اضطُر مع عائلته لمغادرة نجا حمادي هربًا مِن الظلم. ثم سافر معنا إلى القاهرة، لنستقر هُنا عام 1992، ولنعِش بجوار المسلمين، فكانت بيننا مودة ومحبة كبيرة، جعلته يُدرك أنّ هُناك مَن يستهدف هذه المودة بين المسلمين والمسيحيين. كَبِرَ مينا، وهو يحلُم بالعدالة، لذا انضم إلى شباب "الحرية والعدالة"، تعرفني عليها ماري قائلة: "هي حركة تسير وفق المبادئ الاشتراكية الحركة مكوّنة من 21 شخصًا من أصدقاء مينا، وتأسست لكي تحمل اسم مينا وأفكاره الثورية، والحركة لا تسعى لأي منصب أو ربح، وعلى رأس الأجندة محاربة الفقر والتمييز بين طبقات المجتمع المصري".
وسرعان ما انطلقت الثورة في 25 يونيو 2010، فكانَ مينا من أوائل الشباب الذين نشطوا على الفيسبوك وفي الميدان. كثيرون لم يعرفوا أسمه، ولا ديانته، لكنهم أحبوه، ووقفوا إلى جانبه عندما أصيب برصاصة في صدره وفي رجله، وهو الذي ظلّ يقف على رجليه ويمشي في قلب المعركة".
وتضيف ماري بلهجتها المصرية: "كان يقولي دايمًا الثورة جاية.. جاية، اضحك، مكنتش فاهمة يعني ايه ثورة، لما عشت وياه الثورة، دقت حلاوة الثورة، حسيت لأول مرة انه مفيش فرق بين مسلم ومسيحي، بين فقير وغني، بين دكتور وبين شحات، كنا نتمنى ان مصر كلها تبقى الـ 18 يوم، اللي عشناهم في ميدان التحرير، كانت ايام حلوة، وبعدها قللي مينا: صدقيني الثورة ح ترجع".
تقول ماري: "مينا كان حابب إنّ الثورة تنجح وتتغير الأمور، كان حابب يتعلم موضوع الآثار، لكنه مقدرش، فشعر بالظلم والقهر تاني".
تشي جيفارا المصري!
ماري تشبّه شقيقها مينا بتشي جيفارا المصري، لكنها لم تكن تعرف جيفارا قبل أن يلفت نظرها شقيقها إليه، فقرأت عنه، وعرفت شخصيته، وفعلاً لقبه الأصدقاء والمعارض بتشي جيفارا، فصارَ ما يجمع بين مينا وجيفارا تاريخٌا مشتركًا هو التاسع من اكتوبر وبضعُ رصاصاتٍ من جيشِ مصر لشهيدٍ مصري، ورصاصات منِ الجيش الأمريكي للثائر جيفارا.
- "لا تصالح": جدارية لذكرى رموز "ثورة ٢٥ يناير" \ مينا أصبح أحد رموز شهداء الثورة -
وتؤكد ماري أنّها فكرت بالسفر إلى الخارج، لتبتعد عن مصر، لكنّ شقيقها أقنعها أنّه لا يجب ترك "مصر ام الدنيا"، قائلاً: "يا ماما مصر حلم العالم كله"، وسألني: "انتِ ممكن تقبلي يجي حد يعمل على مصر حماية دولية؟!! أنا كنت اقتل نفسي".
وتحدثني مينا عن علاقة أشقاء مينا به فتقول: "كانوا يريدونني أن أضغط عليه، كي يقص شعره الطويل، وكي يترك ميدان التحرير ويعود إلى البيت، لكنني كنتُ اؤمن أنّ مِن حقه أن يعيش حياته كما يختار، وأنّه يجب أن يحيا كما أبناء جيله، دون ضغوط مِن أحد. وكانت تضايقه المشاكل العائلية، فكنتُ طوال الوقت أطالبه أن يفعل ما يراه مناسبًا، وأن يعيش سنه الحقيقي، لأنّه الأمور ستتغير كلما كبر أكثر". تضيف: "رغم اعتراض أشقائي على مشاركة مينا للثوار في 25 يناير، إلا أنهم اليوم لم يعودوا يحاسبونني على نزولي للميدان، بل أصبح موقفهم مشابهًا لموقفي، لقد فهموا أنّهم لا يجب أن يرضوا بالذل والهوان، في أرض مصر".
"كيفَ تشعرين في غيابه؟!"
"قاسية هي الأيام بدونه، لقد ترك لي كل شيءٍ، أوراقه، صوته كلماته، صوره، لا زلتُ أحتفظ بكتاباته "باسم الله الذي خلق الحب في قلوب البشر"، "باسم الحب الذي زُرع في قلب مينا". وفي أحيانٍ كثيرة، أحاول الهروب مِن أشيائه، كي لا تتعبني جدًا، كما أشعرُ في كل مرة أرى حروف قلمه على دفاتره".
وتضيف: "أشعر أنني فقدتُ ابني الوحيد، أيُ أمٍ تلك التي تستطيع تحمُل غياب ابنها عنها. ومينا كان يُسمي نفسه الخالد، وتحدث عن الاستشهاد ورأى فيه شيئًا عظيمًا يتمناه، لكنني لا اتقبل هذا الغياب. فمينا كان صديقي ايضًا، تعلمتُ منه اشياء كثيرة، فكيف اعوضه؟! تختلطُ مشاعري بين الحزنِ والفخر. ثم إني اتحدث اليه كثيرًا، اكتب له رسائل عبر الفيسبوك، منتظرة ان يصلني منه رد".
الثورة ستعود!
تقول ماري: "اؤمن أنّ الثورة ستقوم على أكتاف شبابها، وستكون أجمل دولة في العالم، ستنافس امريكا، فالمصريون وصلوا أعلى المناصب العالمية، وسينجحون دومًا. وحتى لو طال الزمن وواجهنا المشاكل، فإنّ النهاية ستكون بإذن الله أفضل، ومِن الثورة الفرنسية نتعلم، أنه مهما طال الزمن فالثورة سترافقها النجاحات، وإن لم يكن في جيلنا، فمع الأجيال القادمة، لكنّ المكاسب أكيدة، وحتى ذلك اليوم لا أريد تعويضًا عن استشهاد مينا".